اللغة العربية في تركيا بين الماضي والحاضر

لقد نشأت الثقافة التركية ـ الإسلامية بعد اعتناق الأتراك للإسلام في عهد القراخانيين (٩٣٢م ـ١٢١٢م) الذين اتخذوا الحروف العربية في كتابة لغتهم التركية، وبذلك احتلت لغة القرآن مكانة مرموقة في حياة الأتراك. إذ كانت اللغة الرسمية للدولة التركية في الأناضول هي اللغة العربية وذلك حتى القرن الثاني عشر. وقد احتفظت اللغة العربية بهذه المكانة حتى القرن الثالث عشر قبل أن تحل محلها اللغة الفارسية تدريجيًا.
كانت المدارس التقليدية هي المؤسسات التعليمية الوحيدة في الدولة السلجوقية. وكانت لغة التعليم فيها هي اللغة الفارسية. أما تعليم النحو والصرف العربيين في تلك المدارس فكان جاريًا لغرض استيعاب الكتب الدينية والمراجع الإسلامية الرئيسة. لذلك فإن الهدف المنشود من تعليم اللغة العربية لم يكن لتعليم اللغة نفسها بل لترسيخ التعليم الديني بوساطة لغة القرآن
أما العهد العثماني فقد كان تعليم اللغة العربية من خلال مرحلتين، الأولى «مرحلة ما قبل تأسيس المدارس الرسمية» (١٢٩٩م ـ١٧٧٣م)، والثانية «مرحلة المدارس الرسمية» (١٧٧٣م ـ١٩٢٣م).  
مرحلة ما قبل تأسيس المدارس الرسمية (١٢٩٩م ـ١٧٧٣م).
كانت لغة التعليم خلال هذه المرحلة هي اللغة العربية، إلا أن الهدف من تعليم اللغة العربية ليس إلا فهم الكتب المدرسية السارية في ذلك الوقت، واستيعاب المصادر الإسلامية الرئيسة من تفسير وحديث وفقه إسلامي. وكان تعليم اللغة العربية يعتمد على تعليم القواعد النحوية والصرفية عن طريق حفظ كتب الصرف والنحو، حيث كانت تعطى القواعد أولاً وتليها بعض الأمثلة العشوائية ، ولم تكن لهذه المدارس مناهج دراسية معتمدة فكانت معلومات طلابها مقتصرة على فحوى هذه الكتب وبذلك فكانوا يتعلمون معلومات عن اللغة العربية وليست اللغة العربية نفسها.
مرحلة المدارس الرسمية (١٧٧٣م ـ١٩٢٣م) :
في هذه المرحلة تم ولأول مرة تأسيس مدارس رسمية على المستوى المتوسط تابعة لـ«نظارة المعارف» (وزارة التربية)  وقد جرى تعليم اللغة العربية في هذه المدارس في إطار تعليم قواعد الصرف والنحو العربيين التي من شأنها تسهيل دراسة التركية العثمانية التي أصبحت لغة «مختلطة» من التركية والعربية والفارسية من ناحية ثروة الكلمات والتراكيب اللغوية والبناء.

وقد فشل تعليم اللغة العربية في هذه المدارس إذ لم يكن معلمي تلك المدارس قادرين على إجراء أسهل حوار ثنائي مع أبناء العرب في عهدهم. لذلك لم تكن حالة تعليم اللغة العربية في هذه المدارس «الجديدة» مختلفة عن التعليم الجاري في المدارس التقليدية
وظل تعليم اللغة العربية كما هو حتى ظهرت جهود فردية ناجحة في تدريس اللغة العربية. فقد أوجد الحاج إبراهيم أفندي طريقة جديدة في تعليم اللغة العربية تقوم على شرح قواعد الصرف والنحو العربيين شرحًا وافياً وإجراء تدريبات كافية حول القاعدة المشروحة من قبل الطلاب. وتوجيه الاهتمام لمهارات التحدث والترجمة من التركية إلى العربية. إلا أن هذه الطريقة لم تكتسب إقبالاً شاملاً وظلت مجهودًا فرديًا
تعليم اللغة العربية منذ تأسيس الجمهورية التركية إلى يومنا هذا:
تركزت الجهود في عهد مصطفى كمال أتاتورك على تطوير التعليم على المستوى الابتدائي، الأمر الذي أدى إلى تكثيف الجهود على تعليم اللغة التركية التي أصبحت عنصرًا أساسيًا من عناصر القومية التركية وقد كانت هذه فترة «ركود» بالنسبة لتعليم اللغة العربية في جمهورية تركيا.

إلا أنه في أعقاب الخمسينيات حيث انتشرت مدارس الأئمة والخطباء في أنحاء البلاد، أصبحت اللغة العربية تُدرس في هذه المدارس كمادة دراسية مساندة لمواد أخرى من تفسير وحديث وفقه وغيرها من المواد المهنية، وكذلك في كليات الإلهيات وأقسام اللغة العربية وآدابها التابعة لمختلف الجامعات

تعليم اللغة العربية في ثانويات الأئمة والخطباء:

تفيد إحصائيات العام الدراسي ٢٠٠٠/٢٠٠١م بدراسة ٩٥٧١٦ طالبًا في ٦٠٠ ثانوية للأئمة والخطباء في أنحاء البلاد. ومدة الدراسة هي أربع سنوات تتضمن السنة التحضيرية لتعليم اللغة العربية، ولكن تعليم اللغة العربية في هذه الثانويات لم يحقق النجاح المطلوب وذلك لعدم توافر المؤهلات الدراسية عمومًا لدى معلمي اللغة العربية لكون معظمهم متخرجين في كليات الإلهيات التي ليست من تخصصها تدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها. كما أن عدم توافر مواد دراسية مناسبة لتدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها وبالأحرى لتدريسها للأتراك، قد لعب دورًا سلبيًا في تعليم اللغة العربية.

تعليم اللغة العربية في كليات الإلهيات:
تقسم الكليات إلى فرعين، أحدهما يختص في مجال العلوم الإسلامية لتغطية احتياج الكادر الإداري والتربوي لدى المؤسسات الدينية الرسمية ويدرس فيها الطلاب اللغة العربية من خلال تسع حصص اسبوعياً في السنة الأولى وأربعة في السنة الثانية وحصتين في السنة الثالثة والرابعة، والفرع الثاني يتولى تدريب معلمين لمادة الدين والأخلاق، ويدرس الطلاب في هذا الفرع اللغة العربية لمدة سنتين فقط، خمس حصص اسبوعياً في السنة الأولى وأربع حصص في السنة الثانية فقط.

والهدف من دراسة اللغة العربية في هذه الكليات هو تمكين الطالب ودعمه لغويًا لاستيعاب علوم القرآن وفهم النصوص الدينية المكتوبة باللغة العربية.

وباختصار شديد فإن المشكلات التي تعاني منها هذه الكليات لا تختلف عن المشكلات التي تعاني منها ثانويات الأئمة والخطباء. فعلى سبيل المثال لا يوجد مختبر لغوي، ولا مكتبة تشمل كتبًا باللغة العربية وبالتالي فان إمكانات الطالب لقراءة رواية أو قصة عربية مقتصرة على ما يوفره له المحاضر أو عضو التدريس.

اللغة العربية في تركيا في وقتنا الحالي:

إن ميول حزب العدالة والتنمية إلى ماضيه العثماني والهوية الإسلامية قد دفعت بعجلة تعليم اللغة العربية في تركيا قدماً نحو الأمام، وقد قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان: “بسلبكم اللغة من مجتمع ما، تكونون قد سلبتموه حضارته وذاكرته، أقول هذا باعتبارنا أمة دفعت الثمن غاليا لسلبنا لغتنا، فالاعتداء على لغة مجتمع ما، يعني الاعتداء على دين هذا المجتمع وثقافته وفنونه وآدابه” “وهل هناك شعب في العالم ﻻ يستطيع أبناؤه أن يقرؤوا لغة أجدادهم التي كتبت قبل مئة عام فقط؟”.

وفي سبتمـــبر من عام 2016 بدأ تدريس اللغة العربية في صفـــــوف المرحلة الابتدائيـــة في المدارس الحكومية التركية، بعد أن كانت العربيـــــة مادة اختيــــارية في المرحلتين الإعدادية والثانوية.

كما بدأت الحكومة التركية بتعيين المدرسين العرب من حملة الشهادات وذوي الاختصاصات الخبرات في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها مما زاد الارتقاء في سلم تعليم اللغة العربية في تركيا، كما أن هناك عوامل ودوافع ساعدت في انتشار اللغة العربية بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة:

ومن أهم هذه الدوافع:

دوافع أمنية واقتصادية وثقافية بغية تعزيز الدور التركي في العالم العربي.

والدوافع الاقتصادية: كالرغبة في تشجيع المستثمرين العرب وجذب استثمارات الخليج إلى تركيا، والرغبة في مشاركة قطاع التشييد التركي في عملية إعادة الإعمار بالدول المتضررة من الحروب الأهلية.

أما الدوافع الأمنية: ففي ظل تصاعد حدة مشكلات الإرهاب والهجرة واللاجئين، تزايدت أهمية الإلمام باللغة العربية لدى الأجهزة الاستخباراتية والأمنية، خاصة مع تفاقم الحروب الداخلية لدى دول الجوار سوريا والعراق.

والدوافع الثقافية: يكمن في رغبة تركيا التي يحكمها كادر ذو مرجعية إسلامية في تطوير اللغة العربية كرمز ثقافي للدولة، بما يمكنها من تعزيز العلاقات مع الشعوب والمؤسسات المعنية في الدول العربية، وبالتالي زيادة التأثير التركي في العالم العربي.

ومن اهم هذه الدوافع هي الدوافع الدينة التي تجذب اهتمام الكثيرين من الاخوة الأتراك لتعلم اللغة العربية لفهم القرآن الكريم والسنة المطهرة.

دور اللاجئين في تعليم اللغة العربية:

مع تزايد عدد اللاجئين في تركيا فقد أضافت “بلدية إسطنبول” اللغة العربية إلى اللوحات المرورية ولافتات الطرق، لتصبح اللغة الثالثة بجانب التركية والإنجليزية، وذلك بعد فترة من إدراج اللغة العربية في شاشات المعلومات في خطوط النقل الداخلي ببعض مناطق المدينة، مراعاة لتزايد أعداد العرب المقيمين ومعظمهم من اللاجئين السوريين.

وقرر مجلس التعليم العالي التركي، في إطار استيعاب اللاجئين السوريين داخل المجتمع التركي، فتح أقسام للدراسة باللغة العربية، والتغاضي عن شرط الدراسة باللغة التركية، في 8 جامعات تركية في مناطق تمركز اللاجئين بجنوب وشرق البلاد.

وقد بدأت ثمرات الاهتمام باللغة العربية تنضج بشكل ملحوظ لنرى ذلك جلياً من خلال بعض المدراس التركية التي نهضت بتعليم اللغة العربية وأحرزت نجاحاً ملحوظاً كمدرسة عمر شام للأئمة والخطباء في بنديك من خلال جهود الإدارة والمدرسين ونشاط الطلاب ورغبتهم في تعلم هذه اللغة لغة القرآن، نسأل الله عز وجل السداد والتوفيق.

جميع الحقوق محفوظة © 2023 الإعتدال

Solverwp- WordPress Theme and Plugin

Scroll to Top